( جبل البابا معاناة وحياة بلا امان )
لم يكن يوم عمل كباقي الأيام، فعندما نسجت الشمس خيوطها صبيحة يوم الأربعاء الثالث والعشرون من تشرين الثاني لهذا العام انطلقت إلى عملي الميداني حيث كانت وجهتي المعتادة إلى بلدة أبو ديس كما هو في برنامج الزيارات الميدانية ولكن ضمن خطة العمل في المركز في وحدة التوعية المجتمعية وخطة الزيارات التنسيقية وفحص الاحتياج قبل تنفيذ النشاط وتقديم الخدمات انطلاقا من سياسة المركز في استهداف المناطق الأكثر تضررا والمناطق المهمشة، فقد تم تعديل على برنامج العمل وتغيير وجهتي في ذلك اليوم إلى منطقة جبل البابا شرق القدس، ومن هنا بدأت فصول الحكاية، حكاية 300 فرد من أفراد المجتمع الفلسطيني يجتمعون في 50 أسرة مهددة منازلهم بالهدم.
لقد أدهشني ما شاهدته عند وصولي إلى قمة الجبل عبر المنفذ الترابي وهو المدخل الوحيد لهذا التجمع المحاط بجدار الفصل العنصري من 3 جهات، كنت اعلم بالأهمية القصوى للتوثيق من خلال التقاط الصور، فأمسكت بآلة التصوير وبدأت بالتقاط الصور، وتمنيت للحظات أن ما أشاهده عبر آلة التصوير هي مشاهد صممت خصيصا لمشهد تمثيلي لفيلم أو مسلسل، ثم أكملت مسيري متجهة إلى ما يسمى بالمنازل ( كرفانات ) والتي هي عباة عن ألواح من الزينكو لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، تفتقد شروط السلامة والأمان، وصلت إلى الكرفان لألتقي بسيدة المنزل، حيث جلست وأخبرتني بأنها ستحضر كوبين من الشاي، جلسنا بعدها نتبادل أطراف الحديث بعد أن قمت بالتعريف عن نفسي وعن المركز والمشروع الذي نقوم على تنفيذه والممول من الاتحاد الأوروبي، استمعت إلى حديثها عن حياة بلا أمان، عن أحلام وكوابيس مزعجة توقظها ليلا لتذكرها برحلة التهجير من بئر السبع وخوفها المتكرر من الترحيل مرة أخرى فجميع منازلهم تواجه خطر الهدم، حدثتني عن عمليات المداهمة من قبل جنود الاحتلال صباحا ومساء، عن عمليات الهدم الليلية للمنازل، عن حالة الخوف والرعب التي يحياها الأطفال، وحدثتني وحدثتني،،،
كنت استمع إلى هذه السيدة وأمعن النظر أحيانا في مجموعة من الأطفال الذين تبدو عليهم ملامح الخوف وعدم الشعور بالأمان، لا مكان للعب لديهم سوى مساحة من الصخور الجرداء يتخللها حفر للصرف الصحي وضع عليها ألواح خشبية غاية في الخطر وبعيدة كل البعد عن كونها مكان آمن للعب هؤلاء الأطفال، شدني حديث تلك السيدة في وصفها لمعاناتهم لأعود بنظري إليها ولكن شدني إلى جانب حديثها هذا الكرفان الذي نجلس بداخله، الجدران، والسقف الذي يتوسطه مصباح إنارة مددت أسلاكه دون مراعاة لشروط السلامة، لا شيء يريح النظر في هذا المكان، وكل ما يمكن وصفه به أنه مكان لا يصلح للسكن ولا تتوفر فيه مقومات الحياة التي يحتاجها أي إنسان ليحيى حياة كريمة، لقد أخبرتها عن الخدمات التي يقدمها المركز وبأننا سنقف إلى جانبها وأولادها، وبأننا سنعود مرة أخرى ببرامج مقترحة لتقديم الخدمات لنساهم في تخفيف وقع أثرها على حياتهم وأسرهم.
أذهلني ما شاهدته في هذا المكان بعد أن تنقلت بين عدد من المنازل، ولكن ما أذهلني أكثر هو صمود ساكني هذا التجمع إذ يكافحون من اجل حياة طبيعية في ظل ظروف غير طبيعية البتة، أنهيت زياراتي لعدد من المنازل بعد أن قمت بالتنسيق مع منسق التجمع لعقد ورشة عمل تستهدف النساء في هذا التجمع بهدف نشر الوعي لديهن في موضوع الصحة النفسية وأهمية الحفاظ عليها، واهم الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية، وأكملت مسيري في العودة إلى المكتب وقد انتابني الصمت وتزاحمت في ذاكرتي الأفكار حول ما يمكننا فعله من اجلهم، وزادني إصرارا على العودة إلى هذا التجمع، وتعمق انتمائي لعملي وتفاقم الحس الإنساني والمسؤولية الوطنية والاجتماعية لدي.
ميادة وليد سحويل
أخصائية التوعية المجتمعية/ مركز علاج وتأهيل ضحايا التعذيب